للحياة صوت، فالحضارة صوت، والفنون صوت، والإنسان صوت، والحيوان صوت، والله صوت، والدين صوت، و الثقافة صوت، والحرب صوت، و السلم صوت، والإنتاج صوت، فالحياة كلها صوت، ولا صمت إلا الموت (والصمت تأويل للصوت). ولولا غرق الإنسان في إدراك الحياة بعينه لا بأذنه، لأمكنه أن يُغير مفهومه لوجوده كذات وموضوع معًا ويمتلك حرية أكبر فيما يتعلق بهما، بالإستناد لكل الأصوات حوله وفيه، إذ أن هوس الحضارة الإنسانية بالمراقبة والقياس والتحجيم والتشكيل، يحجب عنه –الإنسان- جوانب مختلفة من ذاته ومحيطه وعالمه.
مع إنتقال "المدلول" من "الدال" السمعي/الأذني/الشفاهي، إلى "الدال" المرئي/العياني/الكتابي، يتغلب النزوع المادي على المعنوي له، وهنا تبدأ بنيوية السلطة والسيطرة وآلياتها الرقابية و الضبطية، بتحويل الفكرة/المدلول إلى مادة. وهنا تبدأ السيطرة في التحرك على محورين في الزمان و المكان:
أولًا: أمامًا، فتسعى العين الرائية للسيطرة و التملك للكون، لتضع الكون المتسع، أمامها، فتبدأ شهوة الاستعمار، بوضع الأرض "الجديدة" في مرمى العين، وتشكيل عين المُحتل/المُستعمَر، بحسب عين المُحتل/المُستعمِر، يذكر مثلًا أن الإسباني في استعماره لللاتينية، حيث كانت الإنكا والمايا قبائل تقدم تراسيم عباداتها للشمس، كان قد قدم نفسه ابنًا لآلهتهم/الشمس، بياضٌ ببشرة سماوية، وعين زرقاء كالبحر، وشعر يشتعل صفرة كشمس، مهندسًا أعينهم كعينيه الطامعة في بلادهم وأرضهم وتاريخهم.
ثانيًا: خلفًا، فثارت الأديان على التاريخ، فقيل أن المسيح أبيض، وتارة أسود، وأخرى أصفر، كل تلك الإسباغات هي إرضاءات للعين؛ أخذت مالم تأخذه الأذن من إرضاءات إلا القليل، ممن تساءل مثلًا عن لغة/لسان آدم (منهم للمثال لا الحصر، كان عبد الفتاح كيليطو).
ماذا لو قُرأ الوجود بأصواته لا بصوره، ماذا لو انكسرت خريطة العالم التي لم تكن إلا إرضاءً لشهوة العين، أما كان للذات أن تتكلم فتكون/توجد، دون الحاجة للعين الرائية في المقولة الشهيرة "تكلم لأراك"، وكأن الوجود محكوم بالرؤية لا بذاته.
الموسيقى موت الكلمة، فيتحرر المعنى بالصوت. أورد ابن عربي قولة للنفري " ياعبدي اللّيل لي، لا للقرآن يُتلى، اللّيل لي لا للمحمدة والثّناء"، فيُفرّق ابن عربي في تلك المقولة بين "تلاوة" حاجبة وأخرى كاشفة، الأولى تحجب منجزها عن الله الذي خصّ اللّيل له، انطلاقًا من انشغال صاحبها بمعاني القرآن عن الله. وهو ما أوضحه الشيخ الأكبر رائيًا أن الله يتوجه إلى منجز هذه التلاوة بالقول: "وماطلبتك لتتلو القرآن، فتقف مع معانيه. فإن معانيه تفرّقك عنّي، فآية تمشي بك في جنتي، وما أعددت لأوليائي فيها. فأين أنا، إذا كنت أنت في جنتي (...) وآية توقفك مع ملائكتي (...) وآية تستشرف بك على جهنم، فتعاين ما أعددت لمن عصاني وأشرك بي (من سموم وحميم وظل من يحموم لا باردٍ ولا كريم)، فأين أنا والليل لي؟، فهذا أنت ياعبدي في النهار معاشك وفي الليل ماتعطيه تلاوتك: من جنة ونار وعرض، فأنت بين آخرة ودنيا برزخ، فما تركت لي وقتًا تخلو فيه، لا لنفسك، بل لي".
الصوت أبهة البهي في تجلي المعنى وإشراقه (ما للتجلي من انفتاح على "الإشراق" بالمنطق الصوفي)، الصوت في الترتيل هاهنا بين تلاوتين، هو الموسيقى ملمسها نسيج الصوت، يقول للمعنى تجلَّ هنا والآن، آلهةً.
صوت السلطة
إن مراوحة المعنى/الدلالة بين قيده الكتابي/الرؤيوي/العيني، وتحرره الشفاهي/السماعي/الأذني، لا يمكن أن يمر دون الإشارة للعلاقة القوية بين الموسيقى/الصوت والوجود/الإدراك، وهو ماتجذر في الجسد الديني والثقافي و التاريخي الإنساني قاطبًا. وبالتالي فهي مراوحة لم تنج تمامًا من آليات السيطرة: الضبط و الرقابة، إذ يذكر مثلًا أن القدرة على تسجيل/تثبيت/احتفاظ/إماتة الصوت، كانت إحدى خواص الآلهة الثلاثة، بجانب: "الحرب" و"المجاعة"، وذلك بحسب الأسطورة الأوروبية القديمة (Gaelic Myth). وهذا التماهي السلطوي والنزوع الشبق للسيطرة على الأصوات والموسيقى لتشكيل الإدراك والوعي الجمعي كآلية سلطوية، يمكننا ملاحظته في خطبة سابقة لأندريه جدانوف (Andrei Dhdanov) أحد مستشاري ستالين لشؤون الآداب والفنون في الحزب الحاكم، والذي تنسب إليه مذهب "الجدانوفية" المتشدد في الفنون و الآداب، يقول فيها، مشيرًا إلى الموسيقى:
"نحن نواجه تيارين من الموسيقى السوفيتية، أحدهما صحي وتقدمي، مبني على الدور الأساسي والضخم للإرث الكلاسيكي لصراع الطبقات، وتحديدًا المدرسة الروسية للموسيقى، ومافيها من مخزون فكري صادق وواقعي، نابع من الرباط العضوي بين الشعب وأصواته وموسيقاه. أما التيار الثاني فهو دخيل على الموسيقى السوفيتية، إذ ينبني على الرفض المغطى و المقنع بقناع من التجدد والإثارة و الإختلاف، ورفض خدمة الشعب برفض موسيقى الشعب، وذلك بتغذية أعمق نقاط الحس الفردي للجمالية.
مهمتين بالغتي الأهمية تقعان الآن على عاتق الموسيقيين و الملحنيين السوفييت، الأولى هي تطوير وإجادة موسيقى سوفيتية، والثانية حماية الإرث الموسيقي السوفييتي من الإختراق بواسطة عناصر منحدرة من البرجوازية. دعونا لا ننسَ أن الاتحاد السوفييتي هو الحامي الأوحد للإرث الموسيقي العالمي باعتباره –الإرث الموسيقي- ممثلًا للحضارة الإنسانية جمعاء، وعليه فواجب على آذانكم الموسيقية و السياسية أن تكون حذقة وماهرة لإثبات أفضلية الموسيقى السوفييتية و المجتمع السوفييتي".
السلطة هاهنا تتأكد وتتمركز بالسيطرة على الأصوات وعسكرتها من خلال منظومات ترشيح وتوجيه وضبط ورقابة متعددة، فمنها كما في الإقتباس أعلاه، منظومة الطبقة والحضارة، وفي اقتباس آخر لهتلر ورد في "دليل عمل الإذاعة الألمانية" عام 1938، يقول: "لولا الصوت العالي، لما تمكنا من السيطرة على ألمانيا"، يتضح فيه دور منظومة "علو الصوت" ومافيها من طمس/خفض صوت الآخر، لتحقيق السيطرة، وفي أنماط أخرى، يتم استدعاء منظومات عنصرية، كما ذكر في أدبيات الحزب الاجتماعي القومي في ألمانيا النازية، يوردها أوزوالد سبينجلير في كتابه "انهيار الغرب"، إذ يردّ فيها:
"إذا منعت موسيقى الجاز للسود، إذا لم يجد أعداء الشعب جمهورًا لهم في ألمانيا ليلحنوا ويعزفوا موسيقاهم عديمة الروح والفكر، فإن قرارات المصادرة والمطاردة لن تصبح تعسفية"، وفي مواقع أخرى يغدو المنع جنسانيًا/جندريًا، ذو تأليه فحولي كمقولة : "صوت المرأة عورة".
لعل هذا التمدد السلطوي من الآلهة الأوروبية القديمة وجدانوف وألمانيا النازية وشيوخ الفحولة المقدسة، وتآمرهم بالرقابة والضبط على الصوت وصولًا لكل شواهد الموسيقى التي تصاحب الدكتاتوريات و الأنظمة الشمولية في التاريخ: "لاصوت يعلو فوق "صوت" المعركة" و"النشيد الوطني" وغيرها من النماذج المحايثة ("بشرة خير")، يكشف لنا ما استبطنته قولة النفري التي أوردها الشيخ الأكبر ابن عربي عن أكثر البنى الثقافية استبطانا وتماهيًا مع السلطة وهي "الدين"، في تناول النص الديني المركزي الذي ينطلق منه الزمان و المكان بالتلاوة، وهو مايدفعنا إلى الغوص في جدلية الشفاهية و الكتابية في الرؤية الدينية-الإسلامية، إذ يمكن قراءتها من خلال محورين:
1. الرؤية الكتابية للوجود، و الرؤية الشفاهية.
2. الصوت وميتافيزيقيا المعنى.
الوجود والمعني بين الشفاهية والكتابية أو الصوت و الحرف
أولًا: الرؤية الكتابية للوجود، والرؤية الشفاهية:
(أ) مشهد: في حديث مؤداه أن الرسول دخل المسجد يومًا، فرأى جمعًا من الناس على رجل فقال: "ماهذا؟" قالوا: "يارسول الله هذا رجل علّامة"، فقال: "وما العلّامة؟"، قالوا: "أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب" فقال: "هذا علم لا ينفع، وجهل لا يضر".
ذكر ابن منظور، و النويري، والقلقشندي، أن الكتاب سميّ كتابًا؛ لأنه يجمع الحروف، وذلك قول يشير مستبطنًا أن كل ما لا يندرج في نظام الحرف، والحرف مرسوم الصوت إلى العين، ممثلًا بالكتابة، سيكون عرضة للضياع. وإذا توسعنا في الجذر الدلالي للكتابة، ومشتقاتها، نجد أن محورها المركزي هو جمع الأشياء وضمها معًا، التماسك ضد التفريق و التشتت.
نُقل عن الرسول قوله: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، فجرى في تلك الساعة بماهو كائن"، وفي رواية أخرى: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال ما أكتب، فقال: أكتب القدر، وما كان، وما هو كائن إلى الأبد". وعن ابن عباس ورد قوله: "إنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه" وصاغ المقدسي ذلك، بقوله: إن الله، "لما أراد أن يخلق الخلق، علم بما هو كائن وما هو مكوّنه، فأجرى القلم به على اللوح"، فالوجود هو جريان القلم بالكتابة، يحل الفناء حينما يتوقف القلم.
يعود بنا والتر أونغ في كتابه عن الشفاهية والكتابية إلى ما وصفه "الانتقال من اللغة المسموعة إلى المكتوبة هو انتقال من الحيز الصوتي إلى الحيز المرئي"، وقد بدأت الكتابة وما صاحبها من تحوّل الأفكار المقاسة بالأذن إلى تمظهراتها المقاسة بالعين (يدعي يونغ أن الإلياذة كانت أقدر على تشكيل الوعي الذاتي الإغريقي وقتما كانت نشيدًا غير مكتوب)، لتبدأ حقبة "الصلابة/القسوة الغير إنسانية" وباتت عملية التفكير "حدثية/Situational " وتخلت عن فكرة "المطلق/المتجاوز/Abstract" ، خالقة أولى قيود الفكر، وهو ما يمكن رؤيته في التاريخ الإنساني في تأثر الأدب والفن بالكتابة، وما أدى إليه ذلك من تشابك إمبريالي وعنصري وطائفي وسلطوي، وتأثر الجغرافيا بالخرائط وانبثاق الحقبة الكولونيالية، وهو مالا يختلف من حيث المبدأ في اعتبار "الشعر" و"اللغة" "علم لا ينفع، وجهل لا يضر". يرى ابن كثير وابن سعد، أن الكتابة كانت قليلة قبل الإسلام، بل نادرة، ويقال أن الخلفاء العباسيون كانوا يفاخرون بأميتهم.
من هنا يمكن فهم الرؤية الكتابية للوجود، باعتبارها مركزية وجودية، تنبثق منها الرؤية الصلبة للأنا/الحق/العلم/النافع/النور، والآخر/الباطل/الجهل/الضار/الجاهلية، جاعلة ما قبلها "جاهلية"، والحقيقة استحواذا نصيًا –ادعاءً- فيها. يصوغ الغزالي الرؤية الكتابية للوجود صياغة عرفانية بقوله: إن الله "كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس و الخيال، فإن من ينظر إلى السماء و الأرض، ثم يغض بصره، يرى صورة السماء و الأرض في خياله، كأنه يشاهدها وينظر إليها، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب، فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس و الخيال، والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال للعالم الموجود في نفسه، خارجًا من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ"، إن خط سير الخيال كوسيلة إلى الإدراك في مقولة الشيخ العلّامة، تنبثق من الرؤية الكتابية العينية للعالم في اللوح المحفوظ وتنتهي إليها، ومنطقيًا لا تتكشف بنية ذلك الإستحواذ المادي/البصري/العيني النازعة إلى السيطرة، إلا بتفكيكها سماعيًا/أذنيًا/معنويًا، أي أن تكون الرؤية شفاهية للوجود، فما هي الديناميات النفسية والتخيلية للشفاهية؟
فلكي نعرف ماالرؤية الشفاهية للوجود، وما طبيعة بنية تلك الرؤية علينا أن نتأمل الصوت من حيث هو صوت خالص، إن كل الإحساسات تحدث في الزمن ولكن للصوت علاقة خاصة بالزمن تختلف من حيث هي عن المادة في علاقتها بالزمن وكذلك مختلف الإحساسات في سجل الإنسانية. ذلك أن الصوت لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى انعدام الوجود، إنه ببساطة ليس قابلًا للعطب فحسب، بل إنه سريع الزوال بشكل جوهري، ويتم إدراكه بهذه الصفة عينها، فعندما نقول "موسيقى"، فإنه في الوقت الذي نصل إلى الألف المقصورة في نهاية الكلمة/الصوت فإن "الميم" في بادئ اللفظ، تكون قد فنت. وهو مايختلف جذريًا في شأن الكتابة والحرف، ذلك أن الحرف/الكلمة يهزمه الزمن، وبالتالي يميل للارتباط بالسلطة والسيطرة، وهندسة الوجود، تمامًا كفكرة الصورة الفوتوغرافية، فالصورة التي تضم مشهدًا فاجعًا تسيطر على المعنى، فبرغم فجاعته وألمه، إلا أن الرائي لا يمكنه إلا أن يجير المعنى لسطوة الصورة التي يثبتها الزمن، فيقول صورة جميلة، برغم فجاعتها، الصوت يقاوم الثتبيت في الزمن، ومع أن كل الإحساسات البشرية تقع في الزمن، إلا أن الصوت هو الإحساس الوحيد الذي يعجز الزمن عن تثبيته، وبالتالي فهو أكثر حرية ومقاومة للسلطة التي تدعي أن الزمن و الوجود و القيمة تبدأ منها وفيها.
فـ"مع أن الكلمة موقعها القول، إلا أن الكتابة سجنتها في حقل البصر للأبد"، الشخص الكتابي لايمكنه إدراك ماتعنيه الكلمة كاملة للأذن" والذائقة، فزمانها خاضع للقلم/الكاتب/السلطة، وبالتالي فهي تشكل وعي وإدراك المتلقي لها. وبالذات إذا تذكرنا أن أقدم الوثائق المكتوبة تاريخيًا عمرها أقل من ثلث عمر أقدم الحضارات الإنسانية، مما يجعل ثلثي الفترة الإنسانية الماقبل كتابية سماعية، إلا أن السرد التاريخي الإناسي (أنثروبولوجيا) يؤرخ بالكتابة لا بالسماع. النظر يفصلنا عن العالم، بينما توحدنا الحواس الأخرى جميعًا مع غيرنا والعالم، فلنقارن فكرة الاستماع لموسيقى شعب أو تذوق طعامه مع فكرة القراءة عنه، أو رؤيته في برنامج وثائقي.
يقول الناقد الموسيقي الإنجليزي نيك كولمان في مقالة له في صحيفة الغارديان: "أتصور أنك إذا كنت تحب الموسيقى على كل حال فسيكون لديها، في رأسك نوع من البعد الثالث، وهو بعد يقترح الحجم بالإضافة إلى السطح، وعمق الحق بالإضافة إلى الجوهر. متحدثًا عن نفسي فقد إعتدت أن أسمع أبنية متى ما سمعت الموسيقى، أشكالًا ثلاثية الأبعاد من المادة المعمارية والتوتر. لم أر هذه الأبنية بطريقة الحس المتزامن الكلاسيكية بقدر ما أحسست بها في مركز العاطفة في الدماغ، (...) كانت الموسيقى بالنسبة لي دومًا وعاءً جميلًا ثلاثي الأبعاد، (أن الأكيد تمامًا أن فن العمارة ]نميل لتسميتها "فن المكان"[ هذا يتعلق تماما بالسيطرة العاطفية للموسيقى" أي الصوت في الشفاهة، يقول الموسيقي دانييل ليفيتين: عندما نستمع للموسيقى "نحن ندرك خصائص وأبعاد متعددة" من بينها النغمة ودرجتها والجرس، والعلو وسرعة الإيقاع والأهم الموقع الفضائي/المكاني، لعل لهذا تحديدًا كان كل ما يلزم للخلق هو الكلام: "كن فيكون" وليس "أنظر فيكون"، وأول النص المقدس/القرآن أن إقرأ ، لا أكتب .
فللخلق صوت، وللحياة صوت، وللموت والفناء صمت.
ثانيًا: الصوت وميتافيزيقيا المعنى:
الكتابة في الثقافة العربية- الإسلامية، في حرم النص الديني القرآني المقدس، بُنيت على مفهوم أن الكلام معنى ولفظًا هو "كلام الله المعجر"، وبالتالي انسجن المعنى في الكلمة، وزاد من قيده، معجزة القول و البناء النصي، أن تحدى مؤسسة الكلمة والكلام معًا. وعلى عكس ما قد يظهر ذلك داعمًا لسلطة الكتابة، بات هادمًا لها جاعلًا الكلمة صنمًا.
أورد أبو الحسن الأشعري تعريفًا للكلام، بأنه "المعنى قائم في النفس"، ولما كان القرآن كلام الله، فهو إذن معنى قائم بنفسه، و"الكتابة رسوم تدل عليه، وليس بموجود معها"، و لأن الله قال على لسان نبيه الأعظم: "لا تسبوا الدهر فأنا الدهر"، فكان إبقاء المعنى في الصوت/الموسيقى/الشفاهة هو حالة الإطلاق الوجودي والتمام وتلك خاصية الألوهة إذ تستحوذ الزمان وتهزمه في آن، ونظرًا لأن الصوت هو الوحيد الذي لا يثبته/يوقفه الزمن -كما ذكرنا-، ولأن الله حيٌ باقٍ لا يموت كخاصية من الألوهة، والموت إفناء/توقف/تثبيت في الزمن، فإن المعنى باقٍ لا يموت بالصوت/الإيقاع لا بالكلمة/الحرف، أي باللحن والموسيقى وليس بالكلمة. وكما يؤكد القلقشبندي أن الكتابة تعمل على "تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية"، لأن "مادتها الألفاظ"، ومنه كان النص قادرًا على حمل تأويلات زمانية متعددة، وانفتاحًا ثقافيًا دراميًا متغيرًا.
يقول حجة الإسلام الغزالي: "اعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرر المعاني أولًا في عقله، ثم أتبع المعاني الألفاظ، فقد اهتدى. فلنقرر المعاني، فنقول: الشيء في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقته في نفسه، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يُعبر عنه بالعلم، الثالثة تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس، الرابعة تأليف رقوم تُدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهو الكتابة؛ فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه، والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه. هذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأمم، والأخيرين وهما اللفظ و الكتابة، يختلفان بالأعصار و الأمم، لأنهما موضوعان بالإختيار"، هنا لا يفصل الغزالي بين المعنى/الفكرة والرسم/الحرف، ولكنه يدفع بها إلى مرحلة وسيطة بين متغيرين هما الفظ صوتًا/شفاهة والكتابة/مادةً، وهو ما يجعل للكلام والنص، قدرة على احتمال شحنة عاطفية درامية في القراءة القرانية، لها القدرة على التناسب و الحوار مع الحاضنة الثقافية، بل ومقاومة المنظومة الأصولية والقمعية فيها، يحضرنا هاهنا نموذجًا لصراع الأصوات/الإيقاعات/الشفاهات وأثره في تشكيل الثقافة الدينية وتنويعاتها الطائفية حاليًا، وبالذات إذا استندت على المادة/البترودولار، وهو الصراع بين تلاوة الخليج العربي الصحراوية، التي نشأت في حاضنة أصولية وهي الوهابية، مستمدة أصوليتها من جغرافيا الصحراء القاسية الممتدة على استقامة الترحال لا الانتماء، شحيحة الجمال والموارد، لا امتدادا فيها للون والدراما، فحولية المنطق في عامّها وخاصّها؛ وقراءة الشام والشمال الأفريقي والمغرب العربي التي اتخذت من جغرافيا الجبال والينابيع و البحر والأنهر هدأتها وديمومتها وامتداداتها في المكان السماعي والمادي، و صولًا لمقاماتها العربية التي بلغت حيويتها أن ترآت لنفسها في الفلامنكو حتى بعد انهيار الحكم العربي في الأندلس. (ولعل الشيخ محمد عمران والشيخ محمود الشحات والشيخ مصطفى اسماعيل والشيخ أحمد نعينع والشيخ ابن عامر والشيخ محمد إيدير، والمقرئات السيدات الشيخة مبروكة، وسكينة حسن، وصولًا للنموذج الفقير أم كلثوم، وغير هؤلاء جميعًا، هم/ن غيض من فيض)، هذا الاتساع الدرامي للصوت أمكنه أن يستمر ويبقى و يقاوم ويتجدد مع التيارات الفكرية والوجودية التي مرت بها الإنسانية ككل، فكان أن اتسعت لتتماهى مع المدرسة التفكيكية المابعد حداثية، التي تستدعي نماذج متشظية فنيًا ووجوديًا، وتسبغ عليها جمالية ما، كنموذج "محسن نامجو" بعنوان "قرآن" (أنظر الروابط، المرفقة)، والذي له ما له وعليه ما عليه، وأيًا كانت نظرتنا وتقييمنا الموسيقي له، إلا أنه استطاع بناء نموذج تفيكي مابعد حداثي قادر على نقل شحنة درامية، مستخدما قراءة قرآنية شمال إفريقية، دامجًا إياها مع نص شعري، لم يتأتى اختياره عبثًا، فالكلمات ليست كالكلمات، والرقص حالة وجودية اجتماعية، لكلمات تنظم العلاقة بين الذات و الأنا بتنوعاتها: قامع ومقموع، ذكر وأنا، ذات وآخر، وغير ذلك.
وبالعودة للشيخ الأكبر ابن عربي، كما بدأنا منه مدينيين له بإشراقاتنا في ظله، هاهو يضيء لنا الشرح الإلهي بمواصلة حديثه عن قراءته الكاشفة لا الحاجبة، على لسان الإله الحق: "فالذي ينبغي له (هو) أن يصغي إليّ، ويخلي سمعه لكلامي، حتى أكون أنا في تلك التلاوة. كما تلوت عليه وأسمعته – أكون، أنا الذي أشرح له كلامي، وأترجم له عن معناه. فتلك "مسامرتي" معه. فيأخذ العلم مني: لا من فكره واعتباره. فلا يبالي العارف المحقق بذِكر جنة، ولا نار، ولا حساب، ولا عرض، ولا دنيا، ولا آخرة! فإنه ما نظرها بعقله. ولا بحث عن الآية بفكره، وإنما "ألقى السمع" لما أقول، وهو "شهيد"، حاضر معي أتولى تعليمه بنفسي، فإنه مني سمع القرآن، ومني سمع شرحه وتفسير معانيه"، تلك القراءة المرجحة الكاشفة على تلك الحاجبة، خاصة بطبقة من أهل الليل، هي طبقة أقطاب أهل الليل "أصحاب المعاني المجردة، عن المواد المحسوسة والخيالية، فهم الواقفون مع الحق بالحق على الحق، من غير وجود ضد".
هكذا تعلم آدم "الأسماء" كلها، وليس "الكلمات" كلها، ولنا في حي بن يقظان إذ يتعلم المعنى لا الحرف، ألف طريق للإله الأعلى.